فالإنسان الراجي -كما تقدم- أحد رجلين: إما محسن عمل الطاعات واجتهد في فعلها، فهو يرجو ثواب الله.وإما تائب أقلع عن الذنوب وكف عنها، فهو يرجو قبول توبته، وهذا رجاء العاملين، لا الأماني الكاذبة. وقد اختلف السلف في أي هذين الرجاءين أفضل: رجاء المحسن المطيع أم رجاء التائب؟فقال بعض السلف: رجاء المحسن أولى؛ لأنه عمل طاعات ويرجو ثوابها من الكريم المنان الذي لا يجازي على الإحسان إلا الإحسان، كما قال تعالى: ((
هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ ))[الرحمن:60]، ويجازي على الحسنة بعشر أمثالها؛ ولما في الحديث الذي ذكرناه آنفاً (
وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً )، فرجاء هذا أولى.وقال الآخرون: رجاء التائب أولى؛ لأن المحسن يرجو وهو ناظر إلى عمله وما قدم من خير، أما التائب فهو حال رجائه ينظر إلى رحمة الله؛ لأنه ما عمل إلا الذنوب والمعاصي، فهو مستشعر التقصير وذله حين يرجو من ربه أن يقبله وأن يفتح له الباب وهو الذي تلوث بالخطايا وتدنس بالذنوب والمعاصي، فرجاء هذا يدل على أفضليته على ذاك، وكلاهما وارد.وقد ذكرنا أن
يحيى بن معاذ الرازي غلب رجاء التائب، وقد قال: (كيف لا يكون رجائي فيك أقوى وأنت بالإحسان معروف وأنا بالتقصير موصوف) والمقصود أن الرجاء ما دام على هذين الحالين فالعبد عند موته يكون قد فاته العمل، ولكنه يستطيع أن يصدق التوبة مع الله وأن ينظر إلى عمله، وأن يستشعر ذنوبه وخطاياه، فينظر من خلال انكساره وذله إلى سعة رحمة الله مع هذه الذنوب ومع هذه الخطايا، فحال الانكسار المقترن بالثقة من رحمة الله، وأن رحمته وسعت كل شيء، وأن رحمته غلبت وسبقت غضبه؛ هذا هو الذي يليق به في تلك الحالة، لكن تطبيق الأعمال لم يعد في مستطاعه، ولم يعد في الإمكان أن يعمل أو يتقرب بالصالحات، ولا يعني ذلك أنه لا يتقرب ولا يعمل، ولكن الكلام عن الأحرى والأولى في هذا الوقت.